منوعات

يخشاه البعض أكثر من الموت .. كيف نتعامل مع رهاب التحدث أمام الجمهور؟

 

الخوف من التحدث أمام الجمهور يُعد واحدا من أكثر المخاوف صعوبة، للدرجة التي تفوق عند البعض خشيتهم من الموت. ذاك الرهاب ثقيل الظل لا يأتي وحيدا أبدا، بل يصطحب معه أعراضا عدة تجعل التحدث إلى من حولك ولو همسا أثقل على نفسك من السير على الجمر، بداية من القلق الطفيف وضيق الصدر حتى نوبات الهلع المتتالية التي تجعل رأسك تدور رغما عنها، وتدفعك للتفكير بعمق في الأفكار السلبية التي تشق طريقها إلى عقلك بسرعة الصوت، ناسيا كلماتك القادمة التي أعددتها جيدا، متحدثا بصوت خافت يشوبه الخوف والتيه والتردد. [1]

 

ما سبق لا يُعد تهويلا للتجربة الشعورية التي يمر بها أي شخص يعاني من رهاب التحدث أمام الجمهور، فهذه الكلمات، رغم سهولة كتابتها، فإن وقعها الشديد لا يمكن مع تأثيراته التي تطول الفرد وصف تجربة أولئك الذين يعانون من هذا الرهاب. تختلف تجربة كل شخص عن الآخر في خوفه، البعض يشعر بوخز خفيف أو توتر طفيف عند التفكير في التحدث أمام الجمهور، بينما يعاني البعض الآخر من الذعر والخوف في كل مرة يفكر فيها في الوقوف أمام جمهور. لكن لماذا يحدث هذا الخوف؟ وهل يمكن التخلص منه؟

   

ما رهاب التحدث أمام الجمهور؟

الخوف من التحدث أمام الجمهور هو رهاب اجتماعي، وأحد مظاهر أشكال قلق الأداء التي يشعر معها الشخص بالقلق الشديد من ظهوره مضطربا بشكل واضح عندما يقف أمام الجمهور سواء كان هذا الجمهور قلة صغيرة أو جموعا غفيرة. [2] هذا الرهاب هو الأكثر شيوعا من بين جميع أنواع الرهاب الأخرى، إذ يُقدّر بعض الخبراء أن ما يصل إلى 75% من السكان يعانون من هذا الرهاب بمستوياته المختلفة، بداية من التوتر الطفيف الذي يسهل السيطرة عليه حتى مستويات الخوف غير المبررة التي تؤثر بشكل فج على العمل والدراسة والحياة الاجتماعية. [3]

   

يمكن أن يمنعك الخوف من التحدث أمام الجمهور من المخاطرة بمشاركة أفكارك وآرائك والتحدث عن عملك وتقديم الحلول للمشكلات التي تواجهها

مواقع التواصل الاجتماعي
   

يقول الطبيب جيفري ستراون الذي يعمل أستاذا مشاركا في الطب النفسي ومديرا لبرنامج بحوث اضطرابات القلق في قسم الطب النفسي والسلوكي بجامعة سينسيناتي: يُعد الخوف من التحدث أمام الجمهور أكثر شيوعا في المرضى الأصغر سنا مقارنة بغيرهم، وربما يكون أكثر انتشارا في الإناث مقارنة بالذكور. [4] ويُضيف: غالبا ما يكون هذا الخوف موجودا لدى الأفراد الذين يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي الذي تؤدي فيه التفاعلات اليومية المجردة إلى قلق بالغ وخوف وحرج غير مبرر، ومع ذلك يجدر الإشارة إلى أنه ليس كل من يعانون من رهاب التحدث أمام الجمهور لديهم اضطراب قلق اجتماعي.

  

هل يمثل هذا الخوف عائقا حقيقيا؟

أن تكون متكلما جيدا قادرا على التحدث أمام الحشود ببراعة في عصر التنمية البشرية والمحاضرات التحفيزية الذي نعيشه فأنت كمن امتلك “خاتم سليمان”. تلك المهارة التي أصبحت مدخلا رئيسيا إلى وظيفة من لا وظيفة له، تُعتبر بالفعل عنصرا أساسيا للنجاح على كافة الأصعدة سواء الدراسية والمهنية منها أو حتى على مستوى الحياة الاجتماعية والشخصية. فقدرتك على التحدث بفاعلية أمام الجمهور تُمكّنك من ترويج أفكارك ببراعة وإيصالها إلى مستمعيك بوضوح مما يساعدك على التقدم بحياتك المهنية وتنمية أعمالك وتكوين علاقات قوية.

 

وعلى النقيض تماما، يمكن أن يمنعك الخوف من التحدث أمام الجمهور من المخاطرة بمشاركة أفكارك وآرائك والتحدث عن عملك وتقديم الحلول للمشكلات التي تواجهها، مما يؤثر مباشرة على مقدار نموك الشخصي والمهني. [5] وبمرور الوقت، تحاول حماية نفسك عن طريق تجنب المواقف التي تتطلب الوقوف أمام الجمهور بأي ثمن، قد يكون هذا الثمن مكلفا للغاية في الكثير من الحالات لدرجة أن بعض الطلاب قد يتجهون لاختيار فصول دراسية أو تخصصات غير التي يريدونها، وبعض الخريجين يعملون في وظائف لا تلائم طموحاتهم، ويتغاضى بعض الموظفين عن الترقيات الممنوحة لهم ويتجنبون الاجتماعات، كل ذلك في سبيل تجنب التحدث أمام الجمهور.

 

لماذا نخشى التحدث أمام الجمهور؟

تتعدد الأسباب التي تجعل الناس يخافون من التحدث أمام الجمهور أو في الأماكن العامة، وغالبا ما ترتبط بتضافر عدة عوامل، منها ما هو جيني وبيولوجي وبيئي ونفسي، أبرز هذه الأسباب وأكثرها منطقية تنطوي على أن الخوف من التحدث أمام الجمهور ليس مرتبطا بجودة الكلام أو قوة الحديث بقدر ما يتعلق بكيفية شعور المتحدث عن نفسه وتفكيره وتصرفاته عند التحدث أمام الجمهور، فنحن كبشر مبرمجون لأن نقلق بشأن السمعة، والتحدث أمام جمهور من الناس قد يهددها. [6]

   

لذا قبل أن تتحدث أمام الجمهور تحدثك نفسك وتتساءل مرة تلو الأخرى؛ ماذا لو رفضني الجميع أو لم يهتموا لحديثي؟ ماذا لو اعتقدوا أنني ممل أو غبي أو رأوا أنني متحدث سيئ؟ هذا ما يدور داخل عقل أي شخص يعاني من رهاب التحدث أمام الجمهور، فالأمر برمته لا يتعلق بمدى جودة الحديث ومنطقيّته بينما يتعلق بالسمعة والخوف من النبذ والرفض. فأن يراك الناس مملا أو غبيا يشكل تهديدا مباشرا يتعامل معه دماغك كأي تهديد آخر قد يؤثر على حياتك، لذا يُثار الجهاز العصبي اللاإرادي للاستجابة لهذا التهديد المحتمل، وتتم العديد من العمليات الحيوية سريعا قبل أن يرتد إليك طرفك.

  

التجربة والخبرة الجيدة تعزز قدراتك على الأداء الجيد وتبرز كفاءتك في التحدث أمام الجمهور

مواقع التواصل الاجتماعي
    

بين تلافيف دماغك تقوم منطقة “تحت المهاد” بتحفيز الغدة النخامية لإفراز الهرمون الموجه للغدة الكظرية الذي يحفز بدوره الغدة الدرقية التي تبث بدورها الأدرينالين بثا داخل دمك. فيبدأ جسدك بالاستعداد فسيولوجيا للمعركة التي لا عدو فيها ولا سلاح، فترتجف ساقاك ويداك ويزداد معدل التعرق ويرتفع معدل ضغط الدم، وتتشنج عضلات بطنك وتتوقف عملية الهضم حتى توفر كميات إضافية من الأكسجين يتم ضخها للأعضاء الحيوية، مما يؤدي إلى جفاف حلقك وتوسّع حدقتي عينيك، فيخرج خوفك عن السيطرة وتقل قدرتك على الأداء الجيد أمام الجمهور. [7]

      

يعلق الدكتور جيفري ستراون على ذلك قائلا: إن الخوف من التحدث أمام الجمهور قد يكون مرتبطا بتجارب سابقة، فالشخص الذي لديه تجربة سيئة مع التحدث أمام الجمهور قد يخشى تكرار هذه التجربة مرة أخرى عند محاولة التحدث أمام الجمهور. ويضيف: الناس الذين يخافون من التحدث أمام الجمهور يخشون الشعور بالحرج أو الرفض، لذلك إن طُلب من شخص ما التحدث إلى مجموعة من الناس على الفور دون أي فرصة للتحضير السابق، ولم يمر الحديث بالشكل المطلوب، من المرجح للغاية أن يبدأ هذا الشخص في الخوف من التحدث أمام الجمهور لبقية حياته. [8]

 

لذا، وكأي رهاب آخر فإن التجارب والخبرات السابقة المتعلقة بالتحدث أمام الجمهور تلعب دورا محوريا في تعزيز أو تثبيط هذا الخوف، بل يمتد الأمر إلى ما هو أعمق من ذلك في حالة التجارب السلبية التي يتعرض خلالها الشخص للنبذ أو السخرية والتنمر وغيرها من المشاعر السلبية، حيث تمثل تلك التجارب في حد ذاتها عقبات عتيدة يصعب إزالتها والتخلص منها بسهولة. [9] إضافة إلى الأسباب السابقة، يوجد العديد من العوامل الإضافية المتغيرة -يسهل السيطرة عليها- التي تسهم بشكل أو بآخر في حدوث الخوف من التحدث أمام الجمهور مثل: نقص الخبرة والمهارات.

 

وكأي مهارة أخرى، فإن التجربة والخبرة الجيدة تعزز قدراتك على الأداء الجيد وتبرز كفاءتك في التحدث أمام الجمهور، زيادة الكفاءة تؤدي حتميا إلى زيادة الثقة التي تُعتبر بمنزلة الترياق الفعال لرهاب التحدث أمام الجمهور، وبالتالي نقص الخبرة وقلة المهارة والممارسة يمثلان عقبات حقيقية تنعكس بشكل سلبي على قدراتك على التحدث أمام الجمهور وتضاعف مقدار خوفك منه. كذلك في بعض الحالات قد يعزز تحدث الشخص أمام أشخاص ذوي مكانة أعلى منه مثل رؤسائه في العمل أو غيرهم إلى زيادة هذا الخوف. [10]

  

   

هل من علاج لهذا الخوف؟

مثله مثل الأغلبية العظمى من أنواع المخاوف والرهاب، ينحصر علاج الخوف من التحدث أمام الجمهور في عدة طرق رئيسة أبرزها وأكثرها شيوعا هو العلاج السلوكي المعرفي (CBT) الذي يلعب دورا جوهريا في علاج طيف واسع من اضطرابات الصحة العقلية بداية من اضطرابات النوم والقلق حتى الاكتئاب والاضطرابات النفسية الأكثر تعقيدا، وذلك لأنه يساعد المرضى على تحديد التحديات والتعايش معها على وجه السرعة خلال فترة قصيرة مقارنة بأنواع العلاج الأخرى. [11]

في رهاب التحدث أمام الجمهور، يساعدك العلاج السلوكي المعرفي على إدراك التفكير السلبي غير الدقيق الذي يسبب زيادة الخوف من الجمهور، بحيث يمكنك النظر للمواقف الصعبة التي تعاني فيها من الخوف بشكل أكثر وضوحا والاستجابة لها بطريقة أكثر فعالية. إلى جانب العلاج السلوكي المعرفي، يمكن الاعتماد على العلاج بالتعرض للتخلص من رهاب التحدث أمام الجمهور، يركز هذا النوع من العلاج على تغيير استجابتك لمواقف التحدث على الملأ عبر التعرض التدريجي والمتكرر لها.

يقوم المعالج بمساعدتك في مواجهة مخاوفك من التحدث أمام الجمهور تدريجيا في بيئة آمنة ومراقبة جيدا، على سبيل المثال يبدأ بتوكيل مهمة التحدث أمام أفراد عائلتك وشرح فكرة ما بسيطة لهم، بعدها يكلفك بعرض الفكرة على مجموعة من أصدقائك المقربين، ثم الانضمام إلى مجموعات النقاش التي قد تساعدك في صقل مهاراتك وزيادة ثقتك في قدرتك على التحدث أمام الجمهور من خلال التكرار والنقد البناء من الأعضاء الآخرين.

 

تدريجيا، يزيد المعالج من حدة التعرض لمواقف التحدث أمام الجمهور مع تعليمك طرق الاسترخاء المختلفة التي يمكنك الاعتماد عليها أثناء تعرضك لهذه المواقف مثل: استرخاء العضلات والتحكم في عملية التنفس، حتى تتمكن في النهاية من السيطرة على خوفك حد التحكم فيه. [12] في بعض الحالات يقوم الطبيب المعالج بوصف بعض الأدوية التي يتم استخدامها بالاقتران مع واحد أو أكثر من طرق العلاج السابقة لمساعدتك على التحكم في خوفك.[13]

 

كيف يمكن التأقلم مع هذا الخوف والسيطرة عليه؟

الأغلبية الساحقة من حالات الخوف من التحدث أمام الجمهور تكون ذات حِدة بسيطة ومتوسطة وبالتالي يمكن التغلب عليها والتخلص منها دون الحاجة إلى العلاج النفسي أو الأدوية المصاحبة له، كل ما يحتاج إليه الشخص هنا هو الصبر والتحلي بروح المثابرة والتحضير الجيد قبل الوقوف أمام الجمهور. هناك العديد من الخطوات التي يمكن اتباعها للتخلص من حالات الخوف من الوقوف أمام الجمهور، أهم هذه الخطوات التي تكسر الجليد بينك وبين هذا الخوف هي: الاستعداد الجيد، والترتيب السابق، والممارسة.

     

الاستعداد الجيد يعني حتمية معرفة الموضوع أو المادة التي ستتحدث بشأنها جيدا لدرجة ألا يجب عليك التفكير بها. كلما فهمت الموضوع الذي ستتحدث عنه أكثر، زادت ثقتك بنفسك وقل احتمال وقوعك في الخطأ أو خروجك عن الموضوع وأصبحت أقل خوفا. لا يقتصر الاستعداد والترتيب السابق على تحضير الموضوع وحسب، بل يعني أيضا ضرورة التأكد من أن جميع الخدمات اللوجستية التي ستحتاج إليها قد تم إعدادها سابقا مثل: المعدات الصوتية والبصرية وآلات العرض وغيرها، فأنت في حاجة إلى أن تكون مرتاحا ومركّزا وليس متشتت الذهن حول مشكلة الصوت أو العرض وغيرهم. [14]

 

تعتبر الممارسة كذلك هي العامل الأكثر حسما في السيطرة على مخاوفك من الجمهور، لذا لا بد من ممارسة عرضك التقديمي أو حديثك كاملا عدة مرات أمام أشخاص مختلفة مع طلب رأيهم وتعليقاتهم، بداية من الأشخاص المقربين الذين ترتاح إليهم حتى الأقل قرابة أو المعارف كالأصدقاء غير المقربين ومعارفهم أو الزملاء وغيرهم. أما أثناء الوقوف أمام الجمهور، صب جل تركيزك على المادة التي ستلقيها وليس على الجمهور. فالناس يوجهون اهتمامهم بشكل رئيسي على المعلومة الجديدة في المقام الأول وليس على طريقة تقديمها. [15]

 

لا تنس القيام بتمارين التنفس العميق قبل الصعود على المنصة وبين الفينة والأخرى من حديثك، فالتنفس العميق سيساعدك على الاسترخاء وعلى أن تكون أكثر هدوءا وتركيزا وسيطرة على الوضع بشكل كبير. واحرص أيضا على أخذ بعض الوقت للتفكير في الأسئلة التي قد يطرحها الجمهور عليك وجهّز إجاباتك بروية ولا تتسرع في الرد. كذلك لا تتوتر أو تخف من لحظات الصمت، تلك اللحظات تهيئ لك وكأنها دهر من الزمن لكنها فى الحقيقة ليست سوى ثوانٍ معدودة، لذا استرخ وخُذ نفسا عميقا واستكمل حديثك. [16]

 

  

في النهاية، رغم أن الخوف من التحدث أمام الجمهور يُعتبر بمنزلة عقبة تعيق الكثيرين عن مواصلة حياتهم بشكل يرضون عنه، فإنه يمكن التخلص منه بسهولة عبر الصبر والمثابرة والممارسة ثم الممارسة. لذا لا تقسُ على نفسك وواظب كل المواظبة على التدريب، وانظر إلى أخطائك على أنها فرصة لتحسين مهاراتك. من الجدير بالذكر أن هناك العديد من المساقات والمصادر التي قد تساعدك في مسيرتك نحو التخلص من هذا الخوف، أبرزها مساق فن الخطابة والإلقاء المُقدَّم باللغة العربية عبر منصة إدراك ويمكنك الالتحاق به من هنا.

تابعونا على الحسـابات التالية ليصلكم كل جديد

|| جروب فيسبوك || صفحة فيسبوك ||  قناة تيلجرام ||  صفحة تويتر  ||

مقالات ذات صلة

‫22 تعليقات

  1. Do you mind if I quote a few of your articles as long as I provide credit and sources back to your website? My website is in the exact same niche as yours and my users would certainly benefit from a lot of the information you present here. Please let me know if this ok with you. Many thanks!

  2. Have you ever considered writing an e-book or guest authoring on other websites? I have a blog based on the same subjects you discuss and would really like to have you share some stories/information. I know my visitors would value your work. If you are even remotely interested, feel free to shoot me an e-mail.

  3. I have been surfing on-line greater than three hours lately, yet I by no means discovered any fascinating article like yours. It’s lovely value sufficient for me. Personally, if all webmasters and bloggers made excellent content material as you probably did, the web will likely be a lot more helpful than ever before. “Where facts are few, experts are many.” by Donald R. Gannon.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock